فلسطين من التقسيم إلى التطهير العرقي.. النكبة مستمرة

فلسطين من التقسيم إلى التطهير العرقي.. النكبة مستمرة

في 15 أيار/مايو، يُحيي الفلسطينيون الذكرى السابعة والسبعين للنكبة الكبرى حين تم تهجير أكثر من 750 ألف فلسطيني قسرًا من وطنهم إثر إعلان قيام دولة إسرائيل بالقوة عام 1948. هذه الذكرى السنوية لا تتعلق فقط باستحضار مأساة تاريخية ماضية، بل بمواجهة واقع مستمر من التهجير والاحتلال والفصل العنصري والابادة وتآكل الأمل السياسي.

لم تبدأ مأساة فلسطين في عام 1948. ففي عام 1917، أصدرت الإمبراطورية البريطانية وعد بلفور، معلنة دعمها لإقامة "وطن قومي للشعب اليهودي" في فلسطين، ومتجاهلة عمدًا وجود الأغلبية الفلسطينية وإرادتها. كان ذلك بداية النكبة المنهجية. فقد سهّلت السياسات الاستعمارية البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى، والانتداب الذي تبعها (1920–1948)، هجرة جماعية للمستوطنين اليهود الأوروبيين، والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، وتسليح الميليشيات الصهيونية، في الوقت الذي قمعت فيه الانتفاضات والتطلعات السياسية الفلسطينية بوحشية.

في عام 1947، صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على القرار 181 الذي أوصى بتقسيم فلسطين إلى دولتين، يهودية وعربية. كان ذلك تصرفًا غير مسؤول بشكل كبير: فالقرار اتُّخذ دون استشارة الشعب الفلسطيني الأصلي، دون موافقته، ودون أي جهد جدي للحوار بين الأطراف المختلفة للحفاظ على وحدة وسلامة أراضي فلسطين. والأسوأ من ذلك، أن الخطة منحت الأقلية اليهودية، التي كانت تملك حوالي 6٪ فقط من الأرض، أكثر من 55٪ من فلسطين التاريخية. فلم يكن الأمر أبدا يتعلق بإنشاء ملاذ للناجين من الاضطهاد، بل بتمكين مشروع استيطاني استعماري أوروبي على حساب السكان الأصليين.

دعمت القوى الدولية، تحت وطأة عقدة الذنب الأوروبية بعد المحرقة، تدفق المستوطنين اليهود الأوروبيين، ليس ليعيشوا بسلام مع الفلسطينيين، بل لاقتلاعهم، والسيطرة على الأرض، ومحو هويتهم الوطنية. لم تكن هذه خطة سلام، بل وصفة لكارثة مستمرة، وقد أدت بالفعل إلى نكبة وكارثة عميقة للشعب الفلسطيني.

أحداث ومجازر العصابات والمنظمات الصهيونية عام 1948 ضد الفلسطينيين لم تكن نتيجة فوضى حرب، بل كانت أعمال تطهير عرقي متعمدة ومخططة. دُمرت أكثر من 500 قرية فلسطينية، وقُتل الآلاف، وتحول ما يقارب 750,000 شخص إلى لاجئين. وسارعت الدولة الجديدة، إسرائيل، إلى سن قوانين عنصرية وفرض سياسات تمنع عودة الفلسطينيين، بينما استقدمت المهاجرين اليهود ليسكنوا منازلهم.

اليوم، تؤكد الأدلة — التي جمعها مؤرخون فلسطينيون، بل وحتى إسرائيليون مثل بيني موريس وإيلان بابيه، أن ما جرى كان خطة ممنهجة لهندسة ديموغرافية تهدف إلى استبدال شعب بشعب وخلق أغلبية يهودية عبر التهجير القسري للسكان الفلسطينيين.

فالنكبة ليست فصلًا من الماضي، بل واقع يومي مستمر. في مخيمات اللاجئين في لبنان والأردن وسوريا. في الضفة الغربية المحتلة وتحت الحصار والابادة في غزة. في نظام قانوني تمييزي يواجهه الفلسطينيون داخل إسرائيل. في كل أمر هدم، وكل مصادرة أرض، وكل حاجز، وكل اعتداء من المستوطنين.

وتحول الشعب الفلسطيني من شعب مهدور الحق، الى شعب غريب في أرضه، وبات الفلسطينيون يُعاملون كعبء سكاني وسياسي من قِبل دولة الأبارتهايد، إسرائيل، ومن عالم لا يريد الاعتراف بتواطئه وخُذلانه للضحايا الفلسطينيين. وتحوّل الخطاب من الحديث عن العدالة والعودة إلى "إدارة الازمة". يتحدث القادة الإسرائيليون علنًا عن كيفية "تقليص" الوجود الفلسطيني، بل ويبحثون في الدول التي قد "تستوعبهم" بعد طردهم من وطنهم. ولم يعد يُنظر إلى الفلسطينيين كشعب له حقوق، بل كخطر ديموغرافي يجب احتواؤه أو طرده او قتله.

التحول الجاري في المجتمع الإسرائيلي يمثل مرحلة جديدة وخطيرة. ما كان يتخفى تحت قناع الديمقراطية بات الآن يتحول إلى دولة عرقية فاشية بشكل علني. من وزراء متطرفين إلى متدينين متشددين في مواقع الحكم، لم يتبقَّ الكثير من التظاهر. تُنتهك حقوق الإنسان الفلسطيني علنًا، ويُسخر من القانون الدولي، وأصبح الاحتلال هيكلًا دائمًا، لا حالة مؤقتة. كما كان يدعى.

هذه العنصرية المفرطة في السياسة الإسرائيلية ستترك أثرًا عميقًا، ليس فقط على ضحاياها الفلسطينيين، بل داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه. فلا يمكن لأي مجتمع أن يقمع آخر دون أن يقمع نفسه. أمة تقوم على الخوف، والتفوق، والإفلات من العقاب، لا يمكنها أن تنعم بالسلام، لا مع جيرانها، ولا مع ذاتها.

على مر العقود، قدم الفلسطينيون تنازلات عديدة. قبولهم بدولة على جزء صغير من أرضهم عام 1988، واتفاق أوسلو عام 1993، والمبادرة العربية للسلام عام 2002 — كلها كانت تنازلات مؤلمة على أمل تحقيق السلام.

لكن إسرائيل رفضت كل هذه المبادرات وواصلت توسيع المستوطنات، وترسيخ نظام الفصل العنصري، وتصعيد العنف والانتهاكات ضد الشعب الفلسطيني. كل "عملية سلام" استُخدمت كغطاء لاستمرار سرقة الأراضي. وفي الوقت ذاته، وفر ما يسمى بـ "المجتمع الدولي الحر" الغطاء الدبلوماسي، والدعم المالي والعسكري، والحصانة السياسية لإسرائيل، واستمر بتبني روايتها القائمة على كونها ضحية الإرهاب، والبربرية الفلسطينية، والعربية، والاسلامية. 

داخليًا، تعيش القيادة الفلسطينية أزمة عميقة. فقد أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت رمزًا للقضية الوطنية، هامشية. وأضحت السلطة الوطنية الفلسطينية بدون سلطة وليست لها اية سيطرة على الأرض، وأكثر اهتمامًا بالحفاظ على الاستقرار والمساعدات الدولية من تحدي اسرائيل. وأدى الجمود السياسي، وانتهاك الحريات، وغياب التجديد الديمقراطي إلى تآكل صورتها امام الجمهور الفلسطيني. وساهم الانقسام الحاد، والفساد، وغياب الرؤية الواضحة في إضعاف الحركة الوطنية والأحزاب السياسية. وإذا أُريد للنضال التحرري أن يُبعث من جديد، فيجب أن يُعاد بناؤه من القاعدة، بالصدق، والوحدة، والمساءلة.

الولايات المتحدة والقوى الأوروبية ليست متفرجة. بل هي شريكة في معاناة الفلسطينيين. من خلال تسليح إسرائيل، وحمايتها من المساءلة، والترويج للتطبيع معها دون العدالة للفلسطينيين، دعمت هذه القوى، ولا زالت، نظام الفصل العنصري الإسرائيلي بنشاط وحيوية.

القادة الغربيون يتغنون بالديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن ازدواجية معاييرهم صارخة. يدعمون أوكرانيا، ويتخلون عن غزة. يدينون جرائم الحرب، إلا حين ترتكبها إسرائيل. هذا النفاق يكشف إفلاس النظام العالمي أخلاقيًا وسياسيا.

ومن بين أشكال الصمت المخزي أيضا، صمت العديد من الكنائس والمؤسسات المسيحية، خاصة في الغرب. فبينما يعاني المسيحيون الفلسطينيون جنبًا إلى جنب مع إخوتهم المسلمين، اختارت العديد من الكنائس العالمية الحياد السياسي على حساب الصوت النبوي. أين هي الأصوات الجريئة التي عرفناها في الماضي تحارب ظلم الأبارتهايد الأبيض في جنوب أفريقيا؟ وأين الأصوات التي حاربت الديكتاتوريات في أمريكا اللاتينية؟ وأين الأصوات التي دعمت حركات الحقوق المدنية؟ على الكنيسة اليوم أن تختار: هل ستكون متواطئة مع الظلم والاحتلال، أم ستقف إلى جانب الحقيقة والعدالة؟

فلسطين ليست قضية محلية أو إقليمية فقط. إنها اختبار أخلاقي عالمي. فهي تطرح السؤال: أي عالم نبني؟ عالم تحكمه العدالة والمساواة، أم عالم يسوده الاستعمار وتفوق العرق الأبيض؟ هل سنسمح بانهيار النظام الدولي والسير نحو "الغرب المتوحش" يحكمه الإفلات من العقاب؟ أم سنطالب بعالم تُحترم فيه كرامة الإنسان للجميع؟ فإذا استمرت حقوق الفلسطينيين في التلاشي، فنحن جميعًا في خطر. وإذا استطاعت القوى العالمية أن تشاهد الإبادة والتهجير تحدث في الوقت الفعلي، دون أن تتحرك، فإن مفهوم حقوق الإنسان نفسه يصبح كذبة.

مع انهيار وهم "حل الدولتين"، على الفلسطينيين التفكير في بديل جريء وشامل: دولة ديمقراطية واحدة يتمتع فيها جميع المواطنين، بغض النظر عن العرق أو الدين، بحقوق متساوية. هذه الرؤية تتطلب تحولًا سياسيًا، لكنها قبل كل شيء تتطلب شجاعة أخلاقية. تتطلب إزالة الاستعمار، ليس فقط من الأرض، بل من العقول. الحقوق المتساوية ليست استسلامًا. بل هي المطلب الأسمى لشعب حُرم من كل شيء.

أخيرا، رغم الدمار، ما زالت هناك قوة لا تنكسر في الروح الفلسطينية. في صمود غزة. في ثبات القدس. في ذاكرة أشجار الزيتون وأغاني القرى. في الأطفال اللاجئين الذين ما زالوا يحلمون بالعودة.

في ذكرى النكبة الـ77، نحن نَحزن. نُقاوم. ونأمل. ليس أملًا ساذجًا، بل أملًا ثوريًا. أمل بأن العدالة لم تمت، وأن التاريخ لم يُختتم بعد. على العالم أن يختار: التواطؤ أم الضمير؟ الصمت أم التضامن؟ الفصل العنصري أم المساواة؟

فلسطين تراقب. والتاريخ كذلك.