191,146 ساعة عمل ضائعة تكلف الاقتصاد الفلسطيني حوالي 2.8 مليون شيقل يوميًا
نابلس– الحياة الجديدة – حنين خالد- في كل صباح، تبدأ الموظفة زين عُمر يومها عند إحدى بوابات الاحتلال الحديدية سواء كانت (المربعة وعورتا أو بوابة صرة اضافةً لبوابة دير شرف)، وهي قادمة من نابلس إلى رام الله، بانتظار أن يسمح لها جندي احتلالي بالعبور. ساعات تقضيها في الطابور دون سبب واضح، فقط انتظار القرار الذي يصدر من كبسة زر أو إيماءة من جندي يتحكم بمصير المارين.
تقول زين: "كنت أعتقد أنني سأصل عملي خلال ساعة، لكنني بقيت ثلاث ساعات في الانتظار. الجندي يفتح متى شاء ويغلق متى شاء، ونحن كأننا رهائن ننتظر الإفراج."
قصة زين ليست استثناء، بل باتت واقعًا يوميًا يعيشه مئات الآلاف من المواطنين، الذين وجدوا أنفسهم محاصرين خلف منظومة من البوابات الحديدية التي تحوّلت إلى مفاتيح يومهم ومصيرهم.
بوابات تقسم الجغرافيا وتخنق الحياة
على مدى السنوات الأخيرة، وخاصة بعد عام 2002 وبناء جدار الفصل العنصري، كثّف الاحتلال الإسرائيلي من نصب الحواجز والبوابات الحديدية، محوّلًا الضفة إلى جزر معزولة مفصولة عن بعضها البعض، تتحكم فيها نقاط تفتيش عسكرية ثابتة.
يصف صلاح الخواجا، مدير عام مديرية الوسط في هيئة الجدار والاستيطان، هذه السياسة بأنها جزء من "خطة متكاملة تشمل الجدار، والاستيطان، والمناطق العسكرية، والبوابات"، مؤكدًا أن هذه البوابات كانت في البداية بحجة حماية المستوطنات، لكنها تحوّلت لاحقًا إلى أدوات للسيطرة على حياة المواطنين وحركتهم.
الجدار الذي بطول 726 كم، اليوم يحتل 11% من أراضي الضفة الفلسطينية، وعلى مداخل الجدار تم بناء ما يعرف بالبوابات الزراعية كمحاولة لفرض قيود على المزارعين والفلاحين الذين تمّت مصادرة أراضيهم أو عزلها عن امتدادها الطبيعي مع القرى والبلدات الفلسطينية، ومن ثم تحولت هذه البوابات إلى مناطق لا بد للفلسطيني من المرور بها للوصول إلى أرضه، سواء في موسم الزيتون أو خلال أعمال الزراعة الأخرى، وهو ما يتطلب تصاريح خاصة تُعرف بـ"تصاريح البوابات الزراعية" تصدر عن الإدارة المدنية التابعة للاحتلال.
ويشير خواجا إلى أن سياسة فرض الحواجز بدأت في الانتفاضة الكبرى عام 1987، إذ ظهر مايسمى بالحواجز العسكرية في مناطق الضفة المختلفة، مبيناً انه في أغلب الأحيان كانت تقام الحواجز الطيارة والتي كان الاحتلال ينصبها بغتة، وذلك في محاولة للضغط على المواطنينن او اغلاق بعض المناطق. لكن تطور موضوع البوابات الحديدية والنقاط والحواجز العسكرية بعد الانتفاضة الثانية، حيث بدأت قوات الاحتلال بعملية بناء حواجز عسكرية ثابتة في عدد كبير من مناطق الضفة؛ وتطور الأمر بعد عام 2002 عندما تم الاعلان عن بناء جدار الفصل العنصري في مناطق الضفة الفلسطينية الذي امتد من شمالها إلى جنوبها.
ويبين أنه ماقبل السابع من تشرين الأول كان عدد الحواجز والبوابات والسواتر الترابية 557 حاجزاً ترابياً في مناطق الضفة الفلسطينية، واستخدمت هذه لإغلاق عدد كبير من القرى والبلدات بذريعة منع أي احتكاك مع المستوطنين، وبالتالي اصبحت تستخدم إما لعقاب المواطنين في بعض القرى واغلاق طرق تاريخية معروفة تربط قرى مع مدن ومحافظات محددة أو تستخدم لعزل قرى عن بعضها من خلال ما يسمى بـ"السواتر الترابية" أو الحجرية او البوابات الحديدية العسكرية.
ويوضح خواجا أنه وصل عدد البوابات خلال العام الحالي إلى نحو 900 بوابة في مناطق الضفة المختلفة، لافتاً إلى أن خطورة تلك البوابات والحواجز تكمن في كونها جزءًا من منظومة تعسفية احتلالية متكاملة تشمل( جدار الفصل والضم العنصري، والاستيطان، والبوابات، والمناطق العسكرية، وكلها تهدف إلى عزل القرى والبلدات الفلسطينية عن بعضها البعض.
ويقول "هذا تطور خطير لما تخطط له دولة الاحتلال التي جاءت بعجد احتلالها للضفة في العام 1967 بما يسمى بخطة أيالون ، والهادفة إلى عزل قطاع غزة عن الضفة؛ وعزل القدس عن مدن الضفة الفلسطينية، وعزل الأغوار (التي تشكل 28% من مساحة الضفة) عن اي ارتباط في مع مناطق الضفة المختلفة، مشيراً إلى أن الاحتلال قرر بالفعل تنفيذ هذه الخطة عبر تحويل مناطق الضفة الفلسطينية إلى 176 "كنتوناً ومعزلا"!!.
ويضيف "ما يجري جزء من عملية تكريس الاحتلال لواقع البوابات، والتي تحولت من كونها وسيلة لحماية المستعمرات، إلى أداة خنق وعزل للتجمعات الفلسطينية، في موازاة ذلك تمكين الكتل الاستيطانية من التواصل فيما بينها لخلق واقع ديمغرافي جديد لصالح المستعمرين".
خنق اقتصادي بغطاء أمني
السياسات الإسرائيلية في الضفة لم تعد تقتصر على الطابع "الأمني" فقط، بل تحوّلت إلى مشروع متكامل لـ"الخنق الاقتصادي"، هدفه الأساسي ضرب المجتمع الفلسطيني من الداخل، عبر إفقاره، وتفكيكه، وعزله عن موارده وأسواقه.
بحسب الخبير الاقتصادي د. ثابت أبو الروس، تنتشر أكثر من 902 بوابة حديدية على مداخل القرى والمدن الفلسطينية. ولا تقتصر آثارها على العزل الجغرافي، بل تمتد لتفصل أبناء شعبنا اقتصادياً واجتماعياً عن بعضهم البعض.
ويصف أبو الروس هذه السياسة بأنها "حرب اقتصادية صامتة تنفذها إسرائيل بحق الاقتصاد الفلسطيني". فالبوابات تعيق مرور البضائع، وتؤخّر وصول العمال، وتُربك دورة الإنتاج والتوزيع، خاصة في المدن الصناعية الكبرى مثل الخليل ونابلس.
نابلس: الصناعة في قبضة الحصار
مدينة نابلس، أحد أعمدة الاقتصاد الفلسطيني، تعرضت لما يشبه الضربة الاقتصادية القاتلة. فالبوابة الحديدية عند مدخل المدينة تحوّلت إلى "حاجز للرزق"، كما يقول أبو الروس. الشاحنات المحمّلة بالبضائع تُؤخَّر أو تُمنع من الدخول، ما يرفع التكاليف ويؤدي إلى تلف المنتجات، لا سيما الغذائية والزراعية منها.
وأسواق نابلس، خاصة البلدة القديمة، التي كانت تعج بالزوار والمتسوقين، فقدت نبضها مع تكرار الاجتياحات العسكرية، ما أدى إلى شلل تجاري وانكماش اقتصادي واسع.
النزوح القسري.. تغيير ديموغرافي
تأثير آخر خطير للبوابات هو التسبب في "النزوح الداخلي". كثير من المواطنين الفلسطينيين اضطروا لمغادرة قراهم والانتقال إلى مناطق أقرب لأماكن عملهم، هرباً من عناء الحواجز.
هذه الظاهرة أدت إلى تضخم في أسعار الإيجارات داخل المدن، وغيّرت النسيج الاجتماعي، ما يهدد التوازن الديموغرافي بين المدن والقرى الفلسطينية.
أريحا والخليل.. السياحة والصناعة بين المطرقة والسندان
في أريحا، المدينة السياحية الأشهر، تراجعت الحركة السياحية إلى حدّ الشلل. البوابات الحديدية على مداخلها أغلقت أبوابها أمام الزوار، فهُجرت الأسواق وكسدت الفلل السياحية.
أما الخليل، فهي نموذج حيّ لمعاناة القطاع الصناعي الفلسطيني. "البضائع القابلة للتلف، مثل الألبان، لا تصمد لساعات الانتظار على الحواجز"، يقول أحد التجار المحليين، مضيفاً أن التأخير أفقد السوق الثقة بالمنتجات الفلسطينية، وضرب اقتصاد المدينة في العمق.
ساعات عمل ضائعة
وكان معهد أبحاث السياسات الاقتصادية"ماس" أشار في دراسة له مؤخراً إلى أن الحواجز الاحتلال وقيود الحركة في الضفة الغربية هي جزء من استراتيجية إسرائيلية لتطبيق نظام الفصل العنصري على شعبنا. حيث تعمل على عزل المناطق الفلسطينية عن بعضها البعض، وتعرقل حركة الأفراد.
وأظهرت البيانات التي تم جمعها من مكتب سيارات أجرة أن حركة النقل انخفضت بنسبة 51.7% بعد بدء العدوان على غزة في تشرين الأول 2023، وتم تسجيل وقت الانتظار على 14 حاجزاً عسكرياً، ووجد أن وقت الانتظار على الحواجز يتراوح بين 15 و50 دقيقة. كما تظهر النتائج أن متوسط التأخير في الرحلات خارج محافظة نابلس يصل إلى 42 دقيقة، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 77.9% عن الوقت الأصلي للرحلة.
تقدر الدراسة عدد ساعات العمل الضائعة يوميا بحوالي 191,146 ساعة، ما يكلف الاقتصاد الفلسطيني حوالي 2.8 مليون شيقل (764.6 ألف دولار) يوميًا، أي ما يعادل 62.2 مليون شيقل (16.8 مليون دولار) شهريًا، بالإضافة إلى ذلك، تؤدي المسافات الإضافية التي يقطعها السائقون لتجنب الحواجز إلى استهلاك وقود إضافي يقدر بحوالي 71,052 شيقلاً (19,203 دولار) يوميًا، أي ما يعادل 22.2 مليون شيقل (6 مليون دولار) سنوياً.
تؤكد نتائج الدراسة أن قيود الحركة تؤثر بشكل كبير على الاقتصاد الفلسطيني، إذ تساهم في ارتفاع نسبة البطالة وتدني الأجور بسبب صعوبة وصول العمال إلى أماكن عملهم، كما تؤدي الحواجز إلى تعطيل حركة البضائع، ما يزيد من تكاليف النقل ويتسبب في تلف بعض المنتجات نتيجة الانتظار الطويل على الحواجز.
نقد شحيح وسوق ينزف
مع استمرار هذا الخنق الاقتصادي، أغلقت مئات المؤسسات والمحال أبوابها، بحسب تقارير محلية، خاصة منذ بداية العدوان على غزة. السوق الفلسطيني يعاني من انعدام السيولة وتراجع حاد في التدفقات النقدية، ما يهدد بانهيار قطاعات كاملة.
ووسط هذا الواقع القاسي، لا تملك زين ومئات آلاف المواطنين سوى الانتظار كل صباح عند البوابة، بعيون تترقب حركة جندي احتلالي، الذي وحده يملك قرار العبور أو المنع.


